- السيرة / ٠1السيرة النبوية
- /
- ٠2فقه السيرة النبوية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
أيها الإخوة الكرام، مع درس جديد من دروس فقه السيرة النبوية، وقد وصلنا في دروس سابقة بعد بيعة العقبة الأولى وبيعة العقبة الثانية إلى الهجرة، ونحن على مشارف ذكرى الهجرة.
مفهومات الهجرة في الإسلام
المفهوم الأول: الهجرة حركة
بادئ ذي بدء، الهجرة حركة، وليست سكوناً، لذلك الإسلام حركي، وليس الإسلام سكونياً، أي أنك استمعت، وأعجبت، وأثنيت، ومدحت، وقدرت، وأكبرت، ولم تفعل شيئاً فأنت لست على شيء.
﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ ﴾
ويا أيها المسلمون، لستم على شيء حتى تقيموا أحكام القرآن في حياتكم، الإسلام حركة، سلوك، التزام، عطاء، صلة، مجاهدة، فإذا بقي الإنسان معجباً بالإسلام إعجاباً نظرياً، أو إعجاباً سكونياً، أو إعجاباً لا يسبر عملاً، هذا فالإنسان أبعد شيء عن حقيقة هذا الدين.
كان من الممكن أن يستمر الإسلام في مكة المكرمة بترتيب إلهي، أن يخضع أهل مكة إلى النبي، ويبقى النبي في مكة، ولكن لماذا شاءت حكمة الله أن تشتد المعارضة في مكة، وأن يبالغ القرشيون في التنكيل بأصحاب النبي، وأن يبدو الطريق مسدوداً للدعوة في مكة، عندها كانت الهجرة.
هذا الدرس بليغ، ما لم تتحرك، ما لم تلتزم، لك حرفة لا ترضي الله ينبغي أن تتركها، لك سلوك لا يرضي الله ينبغي أن تتوب منه، لك علاقة مشبوهة ينبغي أن تقطعها، اعتقدت أن العلاقة مع هذا الإنسان تنفعك مع الله ينبغي أن تقيمها، أما أن تبقى ساكناً، وهذا من أصعب ما يواجه المسلمون به اليوم أعداءهم، سكون، انتظار، ماذا يفعل بنا ؟ دون حركة، دون سعي، دون تفكير في المستقيل، لذلك المفهوم الأول للهجرة يعني الحركة ، المسلم كائن متحرك، وليس كائناً ساكناً، والإنسان يميل إلى السكون، والقعود، والاستسلام ويندب حظه، ويندب أعداءه، ويندب الظروف الصعبة التي يمر بها، ليس هذا من الإسلام في شيء.
النبي عليه الصلاة والسلام واجه أعتى أنواع الظلم، والكفر، والاضطهاد، والتنكيل أصحابه يعذبون أمامه، ولا يملك شيئاً، يقول: صبراً آل ياسر، فإن موعدكم الجنة.
المفهوم الثاني: هجرة المعاصي
أيها الإخوة، أوسع معنى للهجرة أنها حركة، والإسلام حركة، وفي معنى واسع آخر ذكره النبي عليه الصلاة والسلام فقال:
(( وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ ))
أنت مهاجر، بعد ما أُغلق باب الهجرة من مكة إلى المدينة هو في الحقيقة مفتوح بين كل مدينتين يشبهان مكة والمدينة، أما الهجرة بالذات من مكة إلى المدينة فأُغلق بابها، لقول النبي عليه الصلاة والسلام:
(( لا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ ))
لكن بين أيّ مدينتين تشبهان مكة والمدينة الهجرة قائمة بينهما.
المعنى الثاني الذي ذكره النبي عليه الصلاة والسلام الذي يوسع معنى الهجرة الضيق:
(( وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ ))
تركت هذه الحرفة التي بُنيت على معصية، فأنت مهاجر تركت هذه السهرة التي فيها اختلاط فأنت مهاجر، تركت هذه العلاقة التجارية التي فيها شبهة فأنت مهاجر تركت إيداع المال في مؤسسة ربوية، وأخذت رأس مالك فأنت مهاجر
(( وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ ))
أعطى النبي عليه الصلاة والسلام مفهوماً ثالثاً للهجرة، الأول حركة:
﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا ﴾
أول مفهوم حركي.
المفهوم الثاني: أن تترك ما نهى الله عنه فأنت مهاجر .
المفهوم الثالث: هجرة المعاصي
عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(( الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ ))
أي في زمن الفتن، في زمن النساء الكاسيات العاريات، المائلات المميلات، في زمن الفضائيات، في زمن الإنترنت، في زمن أن يعم الفسق والفجور أهل الأرض، في زمن أن يصبح المعروف منكراً، والمنكر معروفاً، في زمن لا يأمر الناس فيه بالمعروف، ولا ينهون عن المنكر، في زمن أن يأمر الناس بالمنكر، وينهون عن المعروف، في زمن أن يصبح المعروف منكراً والمنكر معروفاً، في زمن أن تضيع الأمانة، وأن يكذب الصادق، وأن يصدق الكاذب، وأن:
(( يكون الولد غيظا، والمطر قيظا، وتفيض اللئام فيضا، وتغيض الكرام غيضا ))
في زمن يذوب قلب المؤمن في جوفه مما يرى ولا يستطيع أن يغيّر، إن تكلم قتلوه، وإن سكت استباحوه، في زمن موت كعقاص الغنم لا يدري القاتل لمَ يقتل ؟ المقتول فيمَ قُتل، تطهير عرقي، في زمن التناقضات، في زمن أن تحتقر الأَمَة ربّتها التي ربّتها، تقول: أمي دقة قديمة، هي مثقفة، في زمن أن يوسد الأمر لغير أهله، في زمن أن ترتكب المعصية على قارعة الطريق، في زمن أن يكون الفجار هم علية القوم، في هذا الزمن:
(( الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ ))
إذا عبدت الله في زمن الفتن، في زمن أن يمس الناس غبار الربا، في زمن أن يُكذب الصادق، ويصدق الكاذب، فهذه العبادة بنص الحديث الصحيح القدس:
(( الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ ))
أول مفهوم: الحركة.
المفهوم الثاني: أن تدع ما نهى الله عنه.
المفهوم الثالث: أن تعبد الله في زمن الفتن.
توقيت الهجرة بالمفهوم العام
ولكن متى ينبغي أن تهاجر ؟ ومتى ينبغي ألا تهاجر، أنا أتكلم عن الهجرة بالمفهوم الواسع.
أضرب مثلاً: أُرسلتَ ببعثة إلى بلد غربي لتنال الدكتوراه، من جامعة بالذات، إذا مُنعت من دخول هذه الجامعة، وقرار إيفادك ينص على هذه الجامعة، ولم يسمح لك بالانتساب إلى هذه الجامعة أيعقل أن تبقى في هذا البلد ؟ الجواب: لا، علة وجودي الوحيدة في هذا البلد أن أنتسب لهذه الجامعة، وأن أنال الدكتوراه، فإذا مُنعت من أن أنتسب إليها فلا معنى للبقاء في هذا البلد، هذا المثل.
التطبيق: هل يعلم الأخ المؤمن ما علة وجوده في الأرض ؟ أن يعبد الله.
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾
سبب الهجرة العامة ودليلها
أن يعبد الله بالمفهوم الواسع، طاعة طوعية، ممزوجة بمحبة قلبية، أساسها معرفة يقينية، تفضي إلى سعادة أبدية، فإذا كنت في مكان، وحيل بينك وبين أن تعبد الله، وحيل بينك وبين أن تحقق علة وجودك في هذا المكان، هل تبقى في هذا المكان ؟ إن كان في الإمكان أن تعبد الله في مكان فابقَ فيه، وإذا كان في الإمكان أن تصلح هذا المكان ليتاح أن تعبد الله فيه فابقَ في هذا المكان، أما إذا مُنعت أن تعبد الله، وأنت لا تستطيع أن تفعل شيئاً في هذا المكان فعليك أن تغادر هذا المكان إلى مكان تعبد الله فيه، هذا كلام، ما الدليل ؟ لولا الدليل لقال من شاء ما شاء، الدليل:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ﴾
معنى الاستضعاف في الأرض
المعنى الأول: عدم الاستطاعة لعبادة الله
ما معنى مستضعفين ؟ أي لا نستطيع أن نفعل شيئاً وفق اختيارنا، لا نستطيع أن نعبد الله، لا نستطيع أن نؤدي شعائر الإسلام، لا نستطيع أن نصلي، لا نستطيع أن نحجب نساءنا، لا نستطيع أن نفعل شيئاً يرضي ربنا،
﴿ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ﴾
يعني كان الذي يتولى الأمر يمنع الناس أن يحققوا شعائر دينهم.
المعنى الثاني: الضعف أمام الشهوات
هناك معنى آخر:
﴿ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ﴾
أي: ضعفنا في مكان ما أمام الشهوات، أمامي كأس من الماء شربت من رشفة، قلت: هذا العمل في بلاد المسلمين بمَ يقيم ؟ هل يعدّ الذي شرب الماء قد ارتكب منكراً ؟ لا يعد منكرا أبداً، هذا الماء ماء عذب زلال أنزل الله من السماء، فاختزن في الأرض، وظهر ينبوع، وشربنا منه، والناس شركاء في ثلاث، في الماء، والإنسان خلق فيه، أو خلقت فيه حاجة إلى الماء.
أقسمت إلى أحد الإخوة الكرام البارحة أن الزنا في بلاد الغرب كشربة الماء تماماً، ويستحيل أن تجد فتاة عذراء هناك، بل إن الفتاة العذراء متهمة في عقلها، فإذا كان الإنسان في بلد كهذا البلد المعاصي ترتكب على قارعة الطريق، وفي الحدائق، وأمام الناس، ترتكب الفاحشة العظمى في الطريق فليهاجر.
كنت أضرب على هذا بعض الأمثلة:
إن شاباً أعجبته فتاة هناك فاستأذن والده بالزواج منها، والأب كان زير نساء، هذا مصطلح معروف، قال: لا يا بني، إنها أختك، وأمك لا تدري، فأحجم عنها، ثم أعجبته فتاة ثانية، فاستأذن والده، قال: لا يا بني، إنها أختك أيضاً، وأمك لا تدري، أعجبته فتاة ثالثة، فقال: لا يا بني، إنها أختك أيضاً، وأمك لا تدري، هذا الشاب ضجر فأخبر والدته، قالت له: خذ أين شئت، فأنت لست ابنه، وهو لا يدري، هكذا.
فإذا كنت في هذا البلد، في بلد غربي ترتكب فيه الفواحش على قارعة الطريق وضعفت أمام شهوتك، هذا الضعف من نوع آخر، هناك ضعف قمع، وضعف غلبة، غلبتك شهوتك، فإذا كنت في بلد ضعفت أمام شهواتك، ولأن الشهوات مستعرة، وسبلها ميسرة أيضاً فهاجر من هذا البلد، متى أهاجر ؟ إذا كنت مستضعفاً.
الترغيب في سكنى بلاد الشام
الاستضعاف الأول: أن أُمنع من تأدية شعائر الإسلام، نحن في فضل كبير، والحق يقال: المساجد ممتلئة، وعامرة بالمصلين، ولك أن تفعل كل ما يأمرك به الدين، ولك أن تحجب فتياتك، ونساءك.
نحن في بلد تكلم عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فعَنْ عَمْرِ بْنِ الْعَاصِ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
(( بَيْنَا أَنَا فِي مَنَامِي أَتَتْنِي الْمَلَائِكَةُ، فَحَمَلَتْ عَمُودَ الْكِتَابِ مِنْ تَحْتِ وِسَادَتِي، فَعَمَدَتْ بِهِ إِلَى الشَّامِ أَلَا، فَالْإِيمَانُ حَيْثُ تَقَعُ الْفِتَنُ بِالشَّامِ ))
(( طوبى لمن له فيها مربض شاة ))
كحجم هذه الطاولة،
(( طوبى لمن له فيها مربض شاة، الداخل إليها فبرضائي، والخارج منها بسخطي ))
هناك أحاديث صحيحة في الترغيب والترهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم تبين فضل السكنى بالشام، ذكرت هذا من أجل أهمس من آذان من اغتربوا، وأقاموا في بلاد الغرب، وضعفوا أمام أولادهم، حيث لا تستطيع إذا رأيت مع ابنتك في غرفتها الخاصة شاباً في فراشها، إذا غضبتَ فأنت لست حضارياً، أنت لست مهذباً، لأن هذا الذي ينام معها جاء بطلب منها، هو مدعو، وأنت إنسان همجي حينما ترى ابنتك تحتضن شاباً في غرفتها أو هي في المدرسة فتنهاها عن ذلك، لذلك تؤخذ إلى دوائر الشرطة كي توقع تعهداً ألا تغضب مرة ثانية إذا رأيت شاباً مع ابنتك، في مثل هذه البلاد لا يعاش فيها، لذلك:
(( من أقام مع المشركين فقد برئت منه الذمة ))
لي طالب أقام في بلد بعيد ادعت زوجته التي هي حلاله، أنه التقى بها وهي ليست راضية فحُكم عليه بسنتين سجنا، هذا اسمه بالقانون الغربي اغتصاب الزوجة، زوجته وهو بحاجة إليها حلاله،
(( من أقام مع المشركين فقد برئت منه الذمة ))
لأن عندهم الزواج عقد بين شخصين، لا بين ذكر وأنثى، قد يكون العقد بين رجلين، أو بين امرأتين، أو بين رجل وامرأة ، والإجهاض مسموح به، والزوجة ليست مطالبة أن تتابع زوجها، لها أن تسكن في مكان آخر، وهذا حديث يطول عن مؤتمر السكان، وعن توصيات مؤتمر السكان، وعما يفرض على العالم الإسلامي من إباحيات مؤتمر السكان.
﴿ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً ﴾
﴿ فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ﴾
كم نوعًا من الضعف ؟ ضعف قمع، وضعف غلبة شهوة، فمثل هاتين الحالتين إذا كنت ترجو الله والدار الآخرة ينبغي أن تهاجر إلى بلاد المسلمين، إلى بلاد تؤدي فيه الصلوات بحرية، إلى بلاد تستطيع أن تحجب بناتك.
أيها الإخوة الكرام، هذه علة الهجرة، لكن المشكلة أن هؤلاء المسلمين الذين أقاموا في بلاد الغرب وجدوا الحياة هناك طرية، والعيش رغيداً، والحاجات موفرة، وفي حريات، وفي إباحية والإنسان فيما يبدو له حقوق كثيرة جداً محققة هناك، فآثروا دنياهم على أخرتهم، لذلك لا توازن بين دولة متقدمة جداً، وبين بلد إسلامي متخلف، وازن بين الدنيا والآخرة.
في رمضان كنت مدعواً إلى طعام الإفطار فجلس إلى جانبي رجل عرّفني عن نفسه بأنه رائد فضائي سوري، ركب مركبة فضائية وصل إلى منطقة انعدام الوزن بين الأرض والقمر، قلت له: هذا الجنين الذي في بطن أمه حجمه بعد أن يبلغ الابن تسعة أشهر 750 سم مكعبًا، وهو جالس في مكان مرتاحًا، هناك سائل أمينوسي، يحقق له الدفء والراحة ، طعامه وافر، ليس عنده مشكلة، حينما يعلم أنه سيخرج يتألم أشد الألم، لكن غاب عنه أنه سيخرج من ضيق الرحم، إلى سعة الدنيا، سوريا وحدها فيها ساحل، وفيها شمال، وفيها جنوب، وفيها شرق، وفيها بادية، أليس كذلك ؟ وفي بلاد أوربا، وفي بلاد أمريكا، وفي بلاد آسيا، إفريقيا، أقينوسيا، استراليا، وفي ريادة فضاء.
في الأثر:
(( ينتقل المؤمن من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة كما ينتقل الجنين من ضيق الرحم إلى سعة الدنيا ))
فهذا الذي آثر الدنيا ما عرف الآخرة، وقد خسر أكبر خسارة.
أعظم خسارة تتحقق أن تخسر الآخرة، فهذا الذي آثر الدنيا على الآخرة ما عرف قيمة الآخرة، لذلك يقول:
﴿ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي * فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ* يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي *وَادْخُلِي جَنَّتِي ﴾
فهذا الذي استمرأ الحياة في بلاد يعصى الله فيها على قارعة الطريق، ويضعف الإنسان أمام شهواته هناك، هذا الذي فعل ذلك خسر الآخرة، فلذلك الهجرة جزء لا يتجزأ من الدين.
مفهومات الهجرة الضيقة وتطبيقاتها
أيها الإخوة، لو وصلنا إلى مفهوماتها الضيقة: قد تكون في حرفة لا ترضي الله يقتضي مفهوم الهجرة أن تدعها إلى حرفة ترضي الله.
حدثني أخ قال لي: في رمضان الماضي وأنا راكب مركبتي متجهًا إلى أحد المساجد لأداء صلاة التراويح، استوقفه شرطي لمخالفة، قال لي: أعطيته خمسين ليرة فرفضها، توهمت أنه لم تعجبه، أعطيته مئة ليرة، قال له: لا تحاول، أنا تائب إلى الله، ولن آخذ منك قرشاً واحداً، قال له: انظر إلى يدي، أنا أنقل الرمل مساء لئلا آخذ درهماً حراماً، هذا الشرطي مهاجر، أليس كذلك ؟ والقصة لها تتمة رائعة، فهذا الإنسان عنده معمل ألبسة درجة أولى أعجب بتوبة هذا الشرطي فأخذه إلى معمله وكسا أهله جميعاً بأحدث الألبسة، هذا شرطي مهاجر.
لما تنتقل فجأة في وضع فيه معصية إلى وضع في طاعة فأنت مهاجر عند الله، سهرة لا ترضي الله، فيها لعب نرد، وفيها غناء، فيها مقاهٍ، فيها نساء كاسيات عاريات، والسهرة عمرها عشر سنوات، بعد أن عرفت الله أنا أعتذر، أنا لا أجلس في مثل هذه الجلسات، أنت مهاجر.
لك حرفة مبنية على معصية غيّرها.
حدثني أخ قال لي: عندي مطعم، من خمس وعشرين سنة مسموح فيه الخمر، قال لي: والله أرباحي فلكية، أنا متعاقد مع 18 شركة أجنبية، والأسعار عشرة أمثال، لكن فيه خمر، تاب إلى الله، بعد أن تاب إلى الله هبط الدخل إلى واحد من عشرين، لأن 18 شركة ألغوا العقد معه باعتبار إلغاء الخمر، لأنهم أجانب، صاحب هذا المطعم ما تصنيفه عند الله ؟ مهاجر، هذا هجر المنكر.
امرأة سافرة، ولها مكانة اجتماعية، فلما عرفت أن الحجاب جزء من الدين تحجبت، وقطعت كل علاقاتها مع من كنّ على شاكلتها فهي مهاجرة،
(( المهاجر من هجر ما نهى الله عنه ))
إنْ ثيابك، أو في بيتك، أو في علاقاتك، أو في حرفتك، أو في عملك.
قال لي أخ: أنا منعَم عليّ والحمد لله، وأسافر دائماً بالدرجة الأولى، أنا مرة دعيتُ لمؤتمر، طبعاً الداعي أمير بالخليج، بالدرجة الأولى، قرأت بطاقة الطائرة 50 ألفًا، 25 ألفًا زيادة على الضعف، يضعون معطفك في مكان، هناك كأس عصير، وهناك بعض المجلات الزائدة، وثمة أخوان لنا كرماء، بعد أن عرفوا الله ألغوا الدرجة الأولى من حياتهم، لأن الزيادة في هذا المال الفقراء أولى بها، السفر كله ساعة مثلاً أو ساعتين فأوقف الدرجة الأولى، هذا مهاجر، اركب طائرة ولا مانع، وحقق أعمالك، لكن لا داعي أن تدفع الضعف من أجل أشياء بسيطة جداً، والناس في أمسّ الحاجة لهذا المبلغ.
لو أردت أن أسرد عليكم أنواع من الهجرة لا تعد ولا تحصى، لمجرد أن تنتقل من موقع إلى موقع، من حرفة إلى حرفة، من علاقة إلى علاقة، من نمط إلى نمط، من سلوك إلى سلوك، من مكان إلى مكان.
أحد الإخوة الكرام حج بيت الله الحرام، لشدة ما امتن الله عليه بحالة مسعدة عاهد الله ألا يغادر بلده إلا إلى الحرمين الشريفين، هذا أيضاً مهاجر،
(( والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه ))
أردت بهذا الدرس أيها الإخوة أن يكون حول مفهومات الهجرة، ونحن على مشارف ذكرى الهجرة.
لماذا اختار سيدنا عمر رضي الله عنه التأريخ الهجري ليبدأ من هجرة النبي ؟ الهجرة حركة، لذلك أعيد عليكم هذه الآية:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ﴾
الضعف نوعان: ضعف قمع، وضعف خضوع للشهوة.
﴿ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴾
هل هناك وعيد أشد من هذا الوعيد ؟.
كنت في مؤتمر في لوس أنجلوس، وعقب إلقاء المحاضرة قالت لي امرأة محجبة هذه الكلمة، قالت لي: أنا فلانة أخت فلان، فلان صديقي الحميم في الشام، قلت لها: أهلاً وسهلاً فبكت فوراً، خير إن شاء الله، قالت لي: ابني ملحد، وابنتي راقصة، هذا ثمن الإقامة هناك.
﴿ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ﴾
لذلك الوعيد،
﴿ فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴾
أيها الإخوة الكرام، قضية الهجرة تدخل في حياتنا اليومية، في بعض الحرف التي لا ترضي الله، في بعض البيوت في أمكان لا ترضي الله، حولك طبقة من المجتمع المخملي، نساءهم كاسيات عاريات، مع الاستمرار بهذه المنطقة يأتيك ضغط من بناتك عليك كي يقلدن ما يرين بأعينهن، فيجب أن تغادر إلى مكان محافظ.
الهجرة حركة أيها الإخوة، الهجرة موقف، لكن أخطر شيء بالموضوع:
﴿ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا ﴾
أسوق لهذه الآية هذا المثل:
أنت مهما كنت متعمقاً بالدين، وهمما عظمت هذا الشرع العظيم، ومهما أثنيت على هذا القرآن العظيم، ومهما اعتززت بهذا الدين القويم، إن لم تطبقه فلا قيمة لك عند الله أبداً، تماماً كما لو أن إنساناً يعاني من مرض جلدي، وعلاجه الوحيد التعرض لأشعة الشمس، وهو قابع في غرفة مظلمة قميئة، لا ترى ضوء الشمس، وهو فصيح اللسان يتحدث عن الشمس، وعن قيمتها، وعن أشعتها، وعن نصاعتها، وعن تألقها في كبد السماء، وعن أنها شمس عظيمة، كل هذا الكلام لا يقدم ولا يؤخر، ما لم يتعرض لأشعة الشمس.
لذلك القرآن الكريم بآية واحدة لخصت القرآن كله، أين الآية ؟
﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى ﴾
الآن تلخيص القرآن:
﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ﴾
إن أردت لقاء الله عز وجل بالمعنى الواسع، إن أردت أن تتصل به، إن أردت أن يتجلى على قلبك، إن أردت أن تكون محظياً عنده، إن أردت أن تكون في مقعد صدق عنده، إن أردت السلامة والنجاة:
﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾
هناك جانب عقدي، وجانب سلوكي، العقدي:
﴿ وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾
والجانب السلوكي:
﴿ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا ﴾
إذاً: الإسلام حركة، ونحن في عيد الهجرة، ونحن في مفهوم الهجرة، أوسع مفهوم الحركة، يليه أن تدع ما نهى الله عنه، يليه أن تعبد الله في زمن الفتن،
(( العبادة في الهرج كهجرة إليّ ))
والهجرة بين مكة والمدينة أغلقت لقول النبي عليه الصلاة والسلام:
(( لا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ ))
بينما الهجرة من أي مدينتين تشبهان مكة والمدينة قائمة إلى يوم القيامة، والمستضعف ينبغي أن يهاجر، أي الذي مُنع من أداء شعائره الدينية، أو ضعفت نفسه أمام الشهوات المستعرة في تلك البلاد، والعقاب جهنم،
﴿ فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴾
الوعيد مخيف، لأنك حينما لا تستطيع تحقيق علة وجودك ببقائك في هذا البلد أو في بلد لا تستطيع أن تؤدي به شعائر الله، ولا أن تقيم أمره، أو أن تضعف أمام شهواتك هذا بلد يلغي آخرتك، والإنسان كما ترون وكما تسمعون في قبضة الله، بثانية واحدة انتهى أحد زعماء إسرائيل، ثانية واحدة، خثرة بالدماغ، والناس جميعاً يدعون له بطول البقاء ثانية، هذا الذي يؤثر الدنيا على الآخرة، إنسان غبي أحمق،
﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾
وفي درس قادم إن شاء الله نتابع أحداث الهجرة، وأسبابها، وبعض الوقائع التي كانت بها.